غربة الروح

غريبُ رُوْحٍ ذَوَى.. أقْصَتْهُ أسْفارُ 

وحْدِي وهذا الدُّجَى.. ضَاقَتْ بِيَ الدَّارُ 

قد جفَّ.. والعَزْمُ في عَيْنيّ إصرَارُ 

ظمآن.. لا ماءَ يروي غُلَّتِي.. وَفَمِي 

كأنَّما صُبَّ في أحشائِهِ.. نَارُ 

ورُبَّ ظامٍ صَدٍ والمَاءُ في فَمِهِ 

يَبْدُو خليّاً.. وفي جَنْبَيْهِ إعْصَارُ 

وكَمْ شَجٍ ضاحِكٍ والحُزْنُ يطحَنُهُ 

والعَيْشُ في الذُّلِّ إنْ سَوَّغْتهُ عَارُ 

والذُّلُّ للحُرِّ جُرْحٌ لا دَواءَ لَهُ 

واللَّيْلُ حَولي وملءُ القَلْبِ أكْدارُ 

حيْرانَ تَجْمَعُنِي والهَمَّ أفكَارٌ 

كأنَّما دُقَّ في جَنْبَيَّ مِسْمَارُ 

أخْفِي وأكْتُمُ و الآلامُ تسحقُنِي 

كَرُّ اللَّيالي وايسَارٌ وإعْسارُ 

أرنُو إلى مَا مَضَى و العُمْرُ يسلبُهُ 

يُدْنِي ويُرجِعُ مَنْ شَطَّتْ بِهِ الدَّارُ 

ليْتَ الزَّمانَ الّذي بالبُعْدِ فَرَّقنا 

عادتْ تُفرِّقُنا في الأرْضِ أقْدَارُ 

أكُلَّمَا قَرَّبتْ مَا بَيْنَنَا سُبُلٌ 

يا أيُّها القلبُ كَمْ أشْجَتْكَ أوْزَارُ 

جُرْحِي طويلٌ وقلبي مُثْْقلٌ أبداً 

تَبْلى المَشَاعِرُ.. والآمالُ تَنْهَارُ 

لا الحُزْنُ يَبْقى ولا الأفْرَاحُ دائمَةٌ 

والرِّزْقُ والجَدُّ.. إقْبالٌ وإدْبَارُ 

يَشْقَى ويَأْرَقُ مَنْ أعْيَتْهُ أوْطَارُ 

وكَمْ تقاتلَ.. عند المالِ.. أصْهارُ 

كَمْ ضَاقَ بالفَقْرِ أبْرارٌ وإنْ صَبَرُوا 

بَدَى لَهُم بعد طولِ الجُوُعِ أعْيَارُ 

كأنَّهم أذْؤُبٌ في قفْرةٍ سَغِبُوا 

كالنَّار يدفعُهُمْ.. فالجُوْعُ جَبَّارُ 

هبُّوا إليها وفي أعُرَاقِهِمْ نَهَمٌ 

حُلْوَ الخِصَالِ.. فَمَغْدُورٌ وغَدَّارُ 

وهَكَذا النَّاسُ حُبُّ المالِ أفْقَدهُمْ 

وإنَّما عَمِيَتْ في الحقِّ أبْصارُ 

يبدون كالعُمْيِ.. لكن ليس ثَمَّ عَمَى 

وغرَّهُم جَشَعٌ في النَّفْسِ أمَّارُ 

جارُوا على بَعْضِهِم لا دِيْنَ يردعُهُمْ 

لمْ يُجْدِهِمْ كلبٌ أو يُغْنِ إحْضَارُ 

عاشُوا وماتُوا.. ضَحَايا الحِرْصِ وانْقَرَضُوا 

رَيْبُ الزَّمانِ.. على الإرْزَاءِ صَبَّارُ 

وبيْنَ هذا الورى حُرٌّ أحَاط بِهِ 

وفي أسارِيْرِهِ.. للطُّهْرِ أنْوَارُ 

يَنُوءُ لا يشتكِي والنَّفْسُ قَانِعَةٌ 

لا ذَلَّهُ الفَقْرُ أوْ أطْفَاهُ إكْثَارُ 

لّمْ يَنْسَ في غُرْبَهِ الأوْجَاعِ مَبْدَأهُ 

حُبٌّ يَفِيْضُ وإنْ عَنَّوْهُ أوْ جَارُوا 

وبين أعْمَاقِهِ للنَّاسِ قَاطِبَةً 

يُعَلِّلُ النَّفْسَ فالأرْزَاقُ أقْدَارُ 

يَمْضِي دَؤُوْباً فلا حِرْصٌ ولا كَسَلٌ 

كَمَا يُبَدِّدُ حُرَّ المَالِ أغْرَارُ 

ما أتْفَهَ العُمْرَ لو عِشْنَا نُبَدِّدُهُ 

كأنَّنا في بِقَاعِ الأرْضِ أبْقَارُ 

أكْلٌ ونَوْمٌ بِلا فِكْرٍ ولا هَدَف 

عُسْرٌ فَيُسْرٌ.. وأفْرَاحٌ فَأكْدَارُ 

فالعَيْشُ مُتْعَتُهُ فِيْمَا نُكابِدُهُ 

لولاهُ لَمْ تَحْلُ آمالٌ وأعْمَارُ 

والفِكْرُ كَالحُبِّ أحْلَى ما نُزَاوِلُهُ 

للخَيْرِ والشَّرِّ والإنْسَانُ يَخْتَارُ

والنَّاسُ في رِحْلَةِ الأيَّامِ أوعيَةً 



الشاعر يحي توفيق حسن